Skip to main content

مقتطفات من الذاكرة القانونية (1)

مقتطفات من الذاكرة القانونية (1)

|
  • الكاتب: البوديري شريحة

صناعة القانون مهنة واحتراف في دولة المؤسسات

إن القانون هو التشريع الذي يتم صناعته داخل المجالس النيابية (البرلمانات) باعتباره المصدر الرئيس للمشروعية في أي بلد. وإذا كان التشريع هو وسيلة هامة لتوحيد النظام القانوني والشرعية في الدولة، وعاملاً أساسياً لتحقيق التوافق والوحدة الوطنية، وزيادة الإستقرار والسلم الإجتماعي فإنه يتعين أن يتسق هذا القانون وروح المجتمع وثقافته، ويتلاءم مع قيمه السائدة ومتطلباته، كيما يحقق التوازن بين المصالح المختلفة، بغية الحفاظ على الثقة في المعاملات والمراكز القانونية المكتسبة، ويضمن تكافؤ الفرص للجميع، ويسهم في دوران عجلة الدولة ومنظومتها  من خلال اختزاله للواقع والرؤية الإستشرافية للمستقبل.

فصناعة القانون سياسة قبل أن تكون صياغة، ومهنة واحتراف قبل أن تعد تقليد وإتباع، لكونها مسطرة توازن بين التوجهات الفكرية والمعطيات الواقعية بقالب شكلي محكم ومنضبط كضمانة أساسية لولادة مشاريع القوانين دون أن يشبوها عيب عدم الدستورية من جهة، أو ينتابها مرض الإسهال في الإستثناءات والتعديلات من جهة أخرى، وحتى توفر الوقت والسهولة في تنفيذها من الإدارة والأشخاص، و تجد في القضاء مبتغاها في التطبيق والإعمال دون قصور وغموض.

فالبرلمان (مجلس النواب أو ما حكمه) يعد السلطة المناط بها سن القوانين، و إن أضحى اليوم –دستوريا- في عدد من الدول وظيفة إعداد مشاريع القوانين قد باتت فعلا اختصاص أصيل ترتبط بالسلطة التنفيذية (الحكومة) بسبب درايتها بإحتياجات الواقع وسياسات العمل، ولكن ما لم تدركه هذه الأخيرة في ليبيا أن صناعة التشريع وآلية ولادته تتطلب معرفة بتجارب الدول، بدءا من دراسة مشروع التشريع وأخذ الردود عليه ومناقشته لكونه لا يتوقف وحدود تشكيل لجنة أو فريق عمل قانوني يناط  به القيام بهذه المهمة والتي يقتصر عادةً عملها في تجميع الجاهز من تشريعات الدول الأخرى وإعادة تفريغها في قالب جديد ربما لا يعكس بدوره أو يختزل الواقع الليبي والخصوصية الثقافية لمجتمعنا.

 بل ويزيد الحال تعقيدا أنه لا يتم استحضار مساهمة الأكاديميين والمهنيين وأصحاب الأعمال والمواطنين عبر منظمات المجتمع المدني والدولة كمؤسسات من خلال تسخير الوسائط الإلكترونية و الصحافة والإعلام بل وإقامة ورش العمل والمؤتمرات المتخصصة ولو استغرقت منا بعض الوقت في إظهار العمل القانوني ليكون دائما ومجملا، وحتى يعكس متطلبات واقعنا  و يتبنى فلسفة توجهنا المستقبلي خاصة في المرحلة الإنتقالية لإعادة بناء مؤسسات الدولة الليبية. وينتهي ختاما بمراجعة تقوم بها سلطات الدولة المختصة شريطة أن يتم الأخذ في الإعتبار تطبيقه أن ينبغي أن يمر بمراحل زمنية كافية للحفاط على الثقة وإستقرار المراكز القانونية القائمة أثناء إدخال التشريع لمرحلة النفاذ.

و لعل في هذا السياق نجد البادرة التي قامت بها منظمة مدنية (مركز ليبيا للتحكيم ) كمبادرة لعقد أول مؤتمردولي للتحكيم في ليبيا نهاية العام 2017 م، والذى طرح  مناقشة “مسودة مشروع قانون التحكيم الليبي” باللغتين العربية والانجليزية تعد إنعكاسا لدور منظمات المجتمع المدني والمراكز البحثية والقطاع الخاص عموما في تبنى والدفع بمثل هذه المبادرات المستقلة لتساعد جهات الإختصاص في تحديث المنظومة القانونية للدولة. وقبلها كانت المبادرة التي تبنتها وزارة الإسكان بالتعاون مع شركة كلايد آند كو للمحاماة من خلال عقد مؤتمردولي  محوره “مسودة مشروع قانون للشراكة بين القطاعين العام والخاص لليبيا” والذى عقد  بمدينة طرابلس عام 2013م.

وهذا التوجه ينصب ضمن أهداف الحكومة في السنوات الأخيرة القائم على منهج مراجعة النظم القانونية السارية، من خلال  إصدارها عدة  قرارات مرتكزها الرئيس تشكيل عددا من اللجان القانونية التي أسند إليها مهمة إعادة تقييم وإعداد مشاريع القوانين، وكذا مسلكها في دعم إدارة القانون بالمجلس الأعلى للقضاء بالكفاءات إلا أن هذه المساعي  تتطلب حقا التفكير – خارج الصندوق – وذلك من تجربتي أن ما يعاب عليها – أي اللجان القانونية –   كون عددا كبيرا من أعضائها (وهم زملاؤنا ونكن لهم كل التقدير الاحترام) يمتهنون مهنة القانون لسنوات طويلة سواء في الجانب الأكاديمي أو تحرير العقود او العمل بالهيئات القضائية وغيرها لم تتح لهم فرص التواصل والإطلاع على تجارب الاخرين سواء بالعمل أوبالتنقل. مما يجعل المخرجات المرتقبة من هذه اللجان في تطوير المنظومة التشريعية عموما والأعمال خصوصا ربما يشوبها بعض السلبيات في كونها أى التحديث التشريعي ربما ينحرف عن المبتغى وقد يتم إخراجها أى التشريعات  المنتظرة – شكليا – بما تتفق والنمط القانوني، ولكن – موضوعيا – تخالف المقصد العام و الذي نصبو إليه لإعادة إنتاج المنظومة التشريعية للدولة بمكنة عملية تحقق التوازن المنشود بين الحماية والإنفتاح و الإستشراف والمعطيات، أسس قاعدية لدولة عصرية مدنية  يقود القطاع الخاص بها الدور الرئيس في إعادة بناء الدولة وتحريك اقتصادها، آخذين في الإعتبار إستراتجية أن تكون ليبيا المركز التجاري والمالي لمنطقة شمال أفريقيا وجنوب البحر المتوسط مستقبلا.

وهذا يدفعني إلى الإستشهاد فى سياق هذا المقال  بورقة كتبتها – عندما كنت مقررا وعضوا في اللجنة الليبية البريطانية لتطوير التشريعات المصرفية والاقتصادية في ليبيا – عام 2005 م بعنوان “نحو قانون موحد للشركات في ليبيا” والتي اقترحت فيها عددا من الأفكار بالرغم من البيئة القانونية غير المشجعة، ولعل أهم  مآخذها الإفتقار إلى تشريعات تنظم المعاملات والتجارة الالكترونية في ليبيا وكذا عدم الإعتراف بالإثبات الإلكتروني قانونا، مما كان إلزاما  مهنيا التفكير “خارج الصندوق”، وذلك بتوظيف الوسائط الإلكترونية في تأسيس وإشهار الشركات -عمليا – وبما يتماشى والقانون،  والذي توصلت –  بعد مناقشة المقترح مع بعض المختصين خاصة الفنيون في اللجنة التنفيذية للاستراتجيات (والتى خلفها مجلس التطوير الإقتصادى) – إلى إمكانية بناء منظومة تأسيس وتسجيل الشركات من خلال سلك محرري العقود باستخدام الوسائط الإلكترونية ووفقني الله إلى اقتراح إنتاج منظومة ما يسمى اليوم “مركز الغد للأعمال” ، والتي يتم من خلالها تسريع تأسيس وتسجيل الشركات في ليبيا.

أما اليوم فى هذا المقال أرغب أن انتهز الفرصة بأن أذهب إلى أبعد من ذلك بإبراز أهمية تحديث التطبيقات القائمة طالما البيئة القانونية بعد الثورة ربما تسمح لنا بالمساهمة أكثر في مشاركة مقترحاتنا والتي أتمنى أن تصل إلى الساسة وصانعي القرار في ليبيا،  وهو اقتراح إلغاء الحاجة إلى وجود وسيط في تأسيس وتسجيل وتعديل الشركات من خلال محرري العقود ليس فقط إحتسابا للتكلفة المالية أوالزمنية، بل أيضأ إلى ضرورة تسريع العمل بها من خلال اللامركزية في الإدارة أسوة بما عليه الحال في أغلب الدول الإقتصادية المتقدمة من بريطانيا إلى أمريكا الشمالية و اليابان وحتى سنغافورا وماليزيا.

مرحليا يمكن أن يتم إدخال إستخدام مكاتب التراخيص التابعة لوزارة الإقتصاد في البلديات بربطها بمنطومة مركزية للتأسيس والتسجيل، ومستقبلا من خلال إستخدام الشبكة الدولية للمعلوماتية ضمن ما يعرف ببرنامج الحكومة الإلكترونية كما عليه الحال في نظام مصلحة الجوازات أو وزارة القوى العاملة، والتي لا تتطلب إلا دفع الرسوم المقررة وإستلام السجل التجاري كوثيقة تتضمن كل البيانات التجارية في ورقة واحدة شاملة، على أن يتم ربط المنظومة الخاصة بالشركات والتجار مع كل من وزارة الداخلية والضرائب ومصرف ليبيا المركزي والقوى العاملة والتأمين حتى تتيح الإطلاع بكل ما يتعلق بالرخصة التجارية للشركة أو التاجر من الدولة والغير، وما يشجع هذا التوجه أننا بصدد إنجاز العمل بمنظومة الرقم الوطني في أغلب الإنشطة والمعاملات.

ولأننا لازلنا لا نستطيع تجاوز السنة غير المستحسنة في إعداد مشاريع القوانين، لعلي أستشهد في هذا المقام بما حدث ويحدث في إننا نتلقى من حين إلى أخر خبر مناقشة مشروع  قانون، أو أنه  قد تم  إقامة أو تنظيم ورشة عمل مصغرة له، أو ملتقى، أو مؤتمر قبيل الحدث أو أثناء حدوثه. وعلى سبيل الذكر طرحت فى السنوات السابقة فكرة إعداد “مشروع قانون الشركات التجارية ” من جهة حكومية، ولكن للأسف لم نعثر على نسخة من المشروع إلا لاحقا، ولم نجد الورشة المعلن عنها إلا خبرا عابرا في صفحة الكترونية. فهل لازلنا نعمل بعقلية الإنغلاق والكتمان في دراسة مشاريع القوانين التي تمس الحياة اليومية للمواطن والدولة من خلال السرية التامة والتعتيم وبلجان تعمل في نمط واحد من التفكير.

ألا يجدر بنا أن نتعلم كيف أن الآخرين يصنعون القوانين من خلال مستويات عدة  من النقاشات والمداولات، وبمساهمة كل الأطراف. إضافة إلى إتباعهم للإجراءات المتعارف عليها في مراجعة مشاريع القوانين ، بإشراك الكافة أى الفئات المجتمعية والمهنية. بل أكثر من هذا وذاك ..أنهم يحيلون مسودة التشريع في المسودات النهائية إلي عدد من المكاتب والشركات القانونية المتخصصة لإبداء رأيها  الفني  حيالها نظراً لخبرتها العملية في مجال متابعة إعمال التشريعات والممارسات القانونية في الدولة وقطاعاتها، ويبقى في الختام للسلطة التشريعية الفصل في تقرير ما تراه مناسبا من عدمه وما يخدم المواطن والوطن.

لذا أتمنى من الحكومة الإنتباه إلى عدم الإنحراف عن المهنية والإحترافية في صناعة القانون بحجة الوقت أو الأولويات الوطنية لأن آثار إظهار أي تشريع مشوه أو معيب بولادة غير طبيعية يدفع المواطن نتائجه لاحقا مالا ووقتا.

وفى ختام هذه المقاربة، أستحضر أهمية الوقوف علي الإشكال الرئيس في صناعة التشريع وهو ضرورة الإجابة على السؤال الجوهري: ماذا نريد من ليبيا أن تكون سياسيا واقتصاديا كدولة؟ لأن فاتحة توافقنا على تحديد هذه الرؤية ينعكس بالضرورة على قوة إنتاج أي تشريع بالمعيار الموضوعي، وتتأتى ولادته الطبيعية في إتباع المحطات المهنية والعملية بالمعيار الشكلي.

البوديرى شريحة   

محامى / أستاذ جامعي سابق